رحيل الدكتور نصر أبو زيد عدو القرآن


من تاريخ أعداء القرآن

كتب الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة أبو الحسن الرواندي يقول عنه : الملحد، عدو الدين صاحب التصانيف في الحط علي الملة، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، وكان في أول أمره حسن السيرة، كثير الحياء، منعدم النظير في الذكاء وفهم المعقول، ثم انسلخ من هذا كله، وصار يؤلف المصنفات في ذم القرآن وإنكار النبوات والقول بقدم العالم، وكان يقول أن القرآن من صنع العرب، وأن كلام أكثم بن صيفي أحسن من سورة الكوثر، وكان يأخذ الأموال من اليهود والنصارى لتصنيف المؤلفات في ذم القرآن والحط من نبوة سيد البشر، وقد هلك ابن الرواندي وهو في أواسط الثلاثينيات سنة 298 هجرية، وقد ختم الذهبي ترجمة هذا الزنديق بكلمات معبرات عندما قال عن حاله وما انتهي إليه : لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى . (السير ج 14 ص 59 ).

ربما يعتبر الكثيرون ممن يعظمون مصيبة الموت أنه من غير المروءة أو اللياقة أن يتحدث عن شخص ما بعد رحيله، فالموت قد غيبه وأسكت لسانه، وبالتالي لن يستطيع أن يدفع عنه سهام النقد أو صارم القول، ولكن الحديث عن الدكتور نصر أبو زيد قد يختلف عن مثل هذا الاعتبار، إذ كان من الأجدر والأفضل ترك الحديث عنه وإهماله بالكلية هو وأمثاله، حال حياتهم، ولكن هذه الاحتفالية الواسعة والمرثية البكائية واللطمية المتصاعدة بين صفوف العلمانيين والكارهين للدين قد أخذت حيزا كبيرا من إعلامنا الموجه والمسخر لخدمة العلمنة والتغريب والتحريض في بلادنا، لذلك كان الوقت ملائما للحديث عنه وعن أفكاره وعن رحيله الدرامي بهذه الصورة التي تدعو للتأمل والتدبر .

ذكاء بلا زكاة

الدكتور نصر حامد أبو زيد شخصية كانت مجهولة تماما لغالبية المصريين، وبالتالي سائر المسلمين، بل كان مجهولا حتى بالنسبة للنخبة الثقافية في مصر، حتى أواسط التسعينيات عندما فجر قنبلة من العيار الثقيل بمجموعة من الأبحاث التي تقدم بها لنيل درجة الأستاذية في كلية الآداب جامعة القاهرة، وقد حوت هذه الأبحاث الكثير من الآراء الكفرية الإلحادية، مما حدا بالدكتور عبد الصبور شاهين وقتها لرفضه هذه الأبحاث وحرمه من الترقي لدرجة الأستاذية، فثارت ثورة نصر أبو زيد واستعان بكتيبة العلمانيين في الصحف المصرية لشن حملة ضد إدارة الجامعة عامة والدكتور عبد الصبور خاصة، مما أدي لتفجر القضية وتصاعدت وتيرة الجدل الدائر حولها حتى أقدم مجموعة من النشطين والمحامين علي رفع دعوي ردة ضد نصر أبو زيد للرجوع عن أفكاره، فرفض الرجوع عنها، وحكمت محكمة الأحوال الشخصية في القاهرة في نادرة قضائية لبلد لا يطبق أحكام الشريعة، حكمت عليه بالردة والتفريق بينه وبين زوجته، فما كان منه إلا أن هرب إلي هولندا حيث استقبلته جامعة ليدن بأمستردام وهي الجامعة المشهورة باستقبال وإيواء سائر المرتدين من المفكرين والأدباء والفنانين المسلمين بعد أن فروا من بلادهم، مثل سلمان رشدي الهندي والطاهر بن جلون المغربي، ونسرين تسليما البنغالية، وغيرهم كثير، وذلك منذ سنة 1995، ومن يومها طوي النسيان أخباره ولم يعد أحد يتكلم عنه أو عن أفكاره إلا نادرا

وبعيدا عن أفكاره المنحرفة كان أبو زيد شخصية متميزة ذات عزيمة قوية، وأبو زيد المولود في قحافة، وهي إحدى قرى طنطا في العاشر من يوليو 1943، قد أنهى دراسته في قسم اللاسلكي عام 1960، وعمل بضعة سنوات حتى استطاع أن يوفر لنفسه فرصة الدراسة الجامعية، و حصل على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة 1972 بتقدير ممتاز، ثم ماجستير في الدراسات الإسلامية عام 1976 بتقدير ممتاز، كما حصل على دكتوراه في الدراسات الإسلامية كذلك عام 1979 من الكلية ذاتها، أي أنه ارتقي من تعليم متوسط بسيط إلي درجة الدكتوراة وهو في أواسط الثلاثينيات من عمره، بدرجات متقدمة وبارزة، ولكنه كما يقال ذكاء بلا زكاة !!

أفكار أبو زيد في الميزان

الدكتور أبو زيد قام بتأليف العديد من الكتب التي تمثل في مجملها إعادة إنتاج الفكر المعتزلي في إطاره العصري العلماني، وتتركز كلها حول نقد القرآن الكريم وإبطال حجيته وسلطته التشريعية ، من أهمها : الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) وكانت رسالته للماجستير، فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيى الدين بن عربي) وكانت رسالته للدكتوراه، في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، إشكاليات القراءة وآليات التأويل (مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة)، نقد الخطاب الديني، المرأة في خطاب الأزمة، الخلافة وسلطة الأمة، النص السلطة الحقيقية (مجموعة دراسات ومقالات نشرت خلال إقامته في منفاه بهولندا، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، الخطاب والتأويل، التفكير في زمن التكفير (جمع وتحرير وتقديم نصر أبو زيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته وردود الفعل نحوها)، هكذا تكلم ابن عربي (يعيد فيها الباحث مراجعة دراسته عن ابن عربي) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية،

وقد فاز الدكتور أبو زيد بجائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر في سنة 2005 من معهد جوته برلين، من أجل إعادة قراءة معاني القرآن قراءة مستقلة عن التفسير التقليدي، وبالقطع لا تخفى دلالة أمثال هذه الجوائز وأبعادها الفكرية والعقدية .

ومن خلال كتابات أبو زيد العديدة والتي تتركز علي نقد سلطة النص القرآني تتضح لنا خلاصة أفكار الدكتور الإلحادية والتي تعرض من أجلها لكل أنواع المعانات، وهذه الأفكار تتبلور في عدة محاور رئيسية منها :

أولا: أبو زيد دعا إلى الثورة الفورية على القرآن والسنة، لأنها كما يدعي نصوص دينية تكبل الإنسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته، ويدعو إلى التحرر من سلطة النصوص، بل من كل سلطة تعوق مسيرة التنمية في عالمنا.

ثانياً: يقول على القرآن إنه منتج ثقافي تشكل على مدى 23 عاماً، وإنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وأن القرآن هو الذي سمى نفسه، وهو بهذا ينتسب إلى الثقافة التي تشكل منها.

ثالثاً: قرر أبو زيد بتفكيره الخاص أن الإسلام دين عربي، وأنه كدين ليس له مفهوم موضوعي محدد.

رابعاً: هاجم في أبحاثه علم الغيب، فجعل العقل المؤمن بالغيب هو عقل غارق بالخرافة والأسطورة، مع أن الغيب أساس الإيمان .

أبو زيد ونظرية "الهرمنيوطيقا "

الدكتور أبو زيد كان من أشد أنصار نظرية الهرمنيوطيقا، وهي نظرية غربية مادية تنكر الخالق وتؤول الوحي الإلهي على أنه إفراز بيئوي أسطوري، ناتج عن المعرفي التاريخي الغارق في الأسطورة، ومصطلح الهرمنيوطيقا، مصطلح قديم بدأ استعماله في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني « الكتاب المقدس » .. يشير المصطلح إلى « نظرية التفسير » ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م وما زال مستمرًا حتى اليوم خاصة في الأوساط البروتستانتية، وقد اتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتسـاعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية ؛ كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجى وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفلوكلور.

والقضية الأساسية التي تتناولها « الهرمنيوطيقا » بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء كان هذا النص نصًا تاريخيًا، أم نصـًا دينيًا، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عن "الهرمنيوطيقا" : هي مشتقة من الكلمة اليونانية "Hermeneuin" بمعني يُفسِّر أو يوضِّح - من علم اللاهوت - حيث كان يقصد بها ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المعني بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة !!

لقد طالب أبو زيد بالتحرر من سلطـة النصوص وأولهـا القرآن الكريم الذي قال عنه : القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة، لقد صار القرآن هو نص بألف ولام العهد، هو النص المهيمن والمسيطر في الثقافة، فالنص نفسه - القرآن - يؤسس ذاته دينًا وتراثًا في الوقت نفسه، وقال مطالبًا بالتحرر من هيمنة القرآن : « وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان »

وما ينادي به أبو زيد وهو نفسه ما فعلته أوروبا مع « الوحي » و « الدين » باعتبارهما إنتاج مجتمعات قديمة وبيئات ثقافية متخلفة، وينقل أبو زيد المعركة مع « الوحي » إلى ساحة العالم الإسلامي فيقول : « بأن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي » ، ويقول « إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج إلى إثبات » .

إن مشروع الدكتور أبو زيد، هو وضع التصورات الماركسية والمضامين المادية الجدلية وتفسيراتها للحياة والكون والإنسان والوحي والنبوة والغيب والعقيدة في المعنى القرآني فيصير القرآن ماركسيًا ينطق باسم ماركس وفلاسفة المادية الجدلية والهرمنيوطيقا، فيغير بذلك المفاهيم الرئيسة للقرآن، ويلغي المعاني الحقيقية للسور والآيات، ويطمس الحقائق الدينية التي رسخها القرآن وبينتها السنة .

خاتمة تليق بأفكاره

أبو زيد ظل علي أفكاره حتى آخر لحظة في حياته، ففي آخر مقابلاته الإعلامية، وكانت في قناة الحرة الأمريكية قال للمذيعة بثينة نصر : أن القرآن كتاب أدبي عربي غير قابل للتطبيق في الوقت الحالي، وهو بذلك يقطع الطريق علي من يزايد علي يصفه بشهيد الفكر، وضحية التعصب والتخلف والظلام، أو من يصر علي إعطائه لقب المفكر الإسلامي .

فجأة وبدون مقدمات أو علامات أصيب الدكتور أبو زيد بفيروس نادر الحدوث حار الأطباء في الخارج والداخل في التعرف عليه، هذا الفيروس أصاب خلايا مخه، فأتلفها بسرعة كبيرة وعجيبة بحيث أنه دخل في مراحل متعاقبة من النسيان ثم الهذيان ثم التوهان ثم فقدان الذاكرة الجزئي ثم الكلي، ثم دخل بعد ذلك في غيبوبة تامة حتى هلك في صبيحة يوم الاثنين 5 يوليو، وذلك كله في بضعة أيام بحيث وقف الأطباء عاجزين في معرفة نوع المرض أو الفيروس الذي أصابه .

وقد يندفع العلمانيون في دفاع مستميت عن هذه الميتة متهمين كل من يلتمس منها اعتبارا بأنه نوع من الشماتة في رجل قد أفضى إلي خالقه، ولكننا نقول أن ما أصاب الدكتور أبو زيد من مرض غامض غير مسبوق، وبفيروس لم تسجله الدوائر الطبية من قبل في الداخل والخارج، والذي أصاب عقل الدكتور، هذا العضو الذي كمان يقدسه ويرفع قدره فوق النصوص الشرعية، وقد اتخذه إلها وحكما من دون الله ورسوله، عقله الذي كان موصوفا بالذكاء والحدة، بحيث أطمعه في التجرؤ علي ثوابت، فرام هدمها، وآيات القرآن فأراد تعطيلها بمعول عقله، عقله هذا الذي كان يري فيه أنه فوق النصوص السماوية والأحاديث النبوية، وأنه يجب أن يكون المرجعية العليا للناس الآن، هذا العقل قد دمره الله عز و جل تدميرا شاملاً، بأدق مخلوقاته وأضعفها ؛ بفيروس أتي علي معبود أبو زيد في أيام قلائل، وتركه عبرة للشاهدين، ومثلا في الغابرين، تماما مثلما حدث من قبل مع ابن الرواندي الزنديق، وسبحان من جعل العقول تتشابه، كما تشابهت القلوب .

وحقا إنها خاتمة تليق بأفكاره

0 التعليقات:


صفحات الموقع