رجل المستحيل!!

الشهيد يحيى عياش

بقلم: د. ممدوح المنير

في البداية أقدم اعتذاري لصاحب سلسلة "رجل المستحيل" الروائية لاقتباس اسم المقال من عنوان سلسلته، لكن الرجل الذي أتحدث عنه اليوم لم يكن أسطورةً كبطل الرواية، ولكنه رجل حقيقي من لحم ودم وروح، هو صانع المستحيل بلا مبالغة بل هو سيِّد المستحيل إن جاز التعبير.

صباح يوم الجمعة الموافق الخامس من يناير 1996م سيظل دائمًا حاضرًا في ذاكرة التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي، بل العالم أجمع؛ لأن هناك الكثير من البشر يعيشون في هذه الحياة وهم أموات وآخرون بباطن الأرض ولكنهم أحياء.

تعوَّد المرأ حين يكتب عن سيرة إنسان عظيم أن يطبع كلامه بطابع الحزن على ألم الفراق، ولكن لا أدري ربما كان الثعلب هو الرجل الوحيد الذي يكتب عنه المرأ وهو يشعر بالنشوة والفرح!!، بل ينتابه شعور مفرط بالحماسة والأمل!!.

أعلم أن مقدمة المقال قد تكون طويلة بعض الشيء ولكن طبيعة الرجل الذي في حضرتنا الآن تقتضي تلك التهيئة النفسية للقارئ، فرجلٌ مثل يحيى عياش يجب أن يُقدَّم له طويلاً سواء كان حيًّا أم شهيدًا.

لم تكن صفات مثل (الثعلب، العبقري، الرجل ذو الألف وجه، الأستاذ، المهندس، أبو القنبلة البشرية)، لم تكن هذه النعوت والصفات مما جادت به قريحة محب ولكنها من إعداد وإخراج العدو نفسه!!، نعم كانت قيادات الجيش الصهيوني معجبة أشد الإعجاب بعدوها الأول كما كانوا يطلقون عليه، حتى قال عنه أحد قادتهم "إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطرًا للاعتراف بإعجابي وتقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات وخبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، وعلى روح مبادرة عالية وقدرة على البقاء وتجديد النشاط دون انقطاع"!.

وُلِد يحيى عيَّاش في السادس من مارس 1966م، في قرية "رافات" جنوب غرب مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، كان معروفًا عنه دقة حفظه وذكاؤه الحاد، هذا مع هدوئه وخجله الشديد، ولكنه على ما يبدو كان الهدوء الذي يسبق العاصفة!!.

حفظ القرآن الكريم في السادسة من عمره، وحصل في الثانوية العامة على تقدير 93% تقريبًا، التحق بجامعة بيرزيت، وتخرَّج في كلية الهندسة قسم الهندسة الكهربائية عام 1988م، ولكنه نبغ كذلك في الكيمياء، حاول بعد تخرجه السفر إلى الأردن لإتمام دراسته العليا، ورفض الاحتلال طلبه، وعلَّق على ذلك "يعكوف بيرس" رئيس المخابرات حينها قائلاً: "لو كنا نعلم أن المهندس سيفعل ما فعل لأعطيناه تصريحًا بالإضافةِ إلى مليون دولار"!!.

تزوَّج المهندس بعد تخرجه من ابنة عمته، ورزقه الله البراء ويحيى وعبد اللطيف.

انضم المهندس مبكرًا للحركة الإسلامية في فلسطين حتى أُعلن تأسيس حركة حماس 1987 م- القوة الضاربة لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين- كما يقول موقع الحركة على الإنترنت، طلب المهندس في رسالةٍ كتبها لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحماس الانضمام للكتائب، ووضَّح لهم خطته في تنفيذ عملياتٍ نوعية ستقلب كيان العدو الصهيوني وسرعان ما انضمَّ للكتائب حتى أصبح فارسها الأول بلا منازع.

أشرف المهندس منذ البداية على تنفيذ العمليات الاستشهادية في الذكرى الأولى لمذبحة الحرم الإبراهيمي في فبراير 1994م؛ حيث فجَّر الاستشهادي "رائد زكارنة" حقيبة المهندس في مدينة العفولة؛ ليمزق معه ثمانية من الصهاينة ويصيب العشرات.

وبعد أسبوعٍ تقريبًا فجَّر "عمار العمارنة" نفسه؛ لتسقط خمس جثث أخرى من القتلة.

وبعد أقل من شهر عجَّل جيش الاحتلال الانسحاب من غزة، وتتوالى صفوف الاستشهاديين لتبلغ خسائر العدو في العمليات التي أشرف عليها المهندس حينها 76 صهيونيًّا، و400 جريح.

جُنَّ جنون العدو الصهيوني من عمليات المهندس الاستشهادية حتى قال عنه رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك إسحاق رابين: "أخشى أن يكون عياش جالسًا بيننا في الكنيست".

وقوله أيضًا: "لا أشك أن المهندس يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره، وإن استمرار وجوده طليقًا يمثل خطرًا واضحًا على أمن إسرائيل واستقرارها"، أما "موشيه شاحاك" وزير الأمن الداخلي الصهيوني السابق فقال عنه: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عيَّاش إلا بالمعجزة؛ فدولة إسرائيل بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حدًّا لعملياته التخريبية".

وأصبح كذلك النجم الأول في كافة وسائل الإعلام الصهيونية، وأصبح يتصدر الصفحات الأول تحت عنوان "اعرف عدوك رقم 1.. يحيى عيَّاش"، وتحتها صور مختلفة له؛ لأن المهندس كان معروفًا عنه أنه يملك قدرة خرافية على التنكر لذلك أطلقوا عليه (صاحب الألف وجه).

أصبح المهندس المطارد رقم واحد في الكيان لأكثر من ثلاث سنوات؛ حيث كان لا يستطيع البقاء أكثر من ساعات معدودة في المكان الواحد، قام العدو الصهيوني بتجنيد مئات العملاء لتتبع حركته واصطياده، ولكنه كان دائمًا يفلت بعون الله حتى حان موعد لقائه بربه، وفي عملية معقدة وخسيسة في بيت لاهيا شمال قطاع غزة بتاريخ 5 يناير 1996م انفجر هاتف نقال في رأسه وهو يتحدث مع والده، ويسقط شهيدًا، ولكن بعد أن ترك خلفه مئات التلاميذ الذين أصبحوا الآن أساتذة كبار في العبقرية والصمود والتحدي.

بعد هذه الإطلالة السريعة والواجبة على حياة هذا المجاهد العظيم تبقى كلمة لا بد منها: ما الذي خُلِقَ من هذا الإنسان الذي كان يوصف بالخجل والهدوء الشديد، هذا القائد الفذ؟.

أترك الإجابة لأحد الباحثين الصهاينة الذين كتبوا عن المهندس- فالحق ما شهدت به الأعداء- حيث يقول: "إن المشكلة في البيئة العقائدية الأصولية التي يتنفس المهندس من رئتها، فهي التي تفرز ظاهرة المهندس وظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل عقيدتهم".

إنه الإسلام ولا شيء غيره، هو المحضن الطبيعي لإيجاد هؤلاء البنَّائين العظام، إنها رسالة موجزة للحكام والشعوب إذا أرادوا الرفعة بين الأمم، عليهم أن يعودوا إلى ربهم وينصلحوا معه حتى يصلح الله حالهم، أما يحيى عياش فلا نملك إلا أن نقول له "سلام عليك، ألف سلام.

0 التعليقات:


صفحات الموقع